|
|||
اللغــة و خصوصيــة الشخصيــة العربيــة بسام بركة الثقافة النفسية المتخصصة - العدد 10 |
|||
مدخل : تتحدث إحدى الأساطير الألمانية عن بطل يحب خوض المغامرات و يعشق روايتها. إنه بارون مونشهاوزن. فهو يروي أنه في إحدى مغامراته الشهيرة كان يريد أن يقفز بحصانه فوق بحيرة من الماء، و لكنه لا يستطيع ذلك لكبر المسافة بين الضفتين. يقول هذا البارون: "عندما وصلت فوق الماء تيقنت أن المسافة أطول مما كنت أتصور و أنني لا بد واقع في الماء. فما كان مني إلا أن استدرت بحصاني وعدت إلى الضفة التي انطلقت منها. ثم اتخذت مدى بعيدا في نهاية الحقل و أعدت الكرة آملا أن تكون قفزتي في هذه المرة أطول مسافة وأبعد مدى. و لكن الحظ لم يحالفني و وقعت في وسط البحيرة و غمرني الماء حتى أذني. كنت لا محال مشرفا على الموت غرقا لو لا أني قبضت على شعري بملء يدي و أمسكت بكل ما أوتيت من عزم باليد الأخرى ذنب حصاني و شددته بين رجلي رافعا حصاني و جسدي حتى الضفة الأخرى".
إن أخشى ما أخشى هو أن نكون نحن، علماء النفس و المحللين النفسيين و علماء التحليل النفسي اللغوي، أن يكون مثلنا كمثل هذا البارون الذي أراد أن يقفز من تراثه ليحط في تراث غيره فلم يبق حيث هو و لم يصل إلى حيث يريد. و عندما وقع في الماء و أيقن أنه متخبط في متاهات التيارات الفكرية و غير الفكرية استبدت به الأوهام، فإذا هو بطل أسطوري يفهم ما لا يفهمه الآخرون و يقدر على ما تقدر عليه الأذهان البسيطة. و لكنني في اليوم الأخير من هذا المؤتمر الموقر، و بعد أن استمعت إلى الجلسات العلمية التي سبقت جلستنا هذه، يعود إلي الاطمئنان شيئا فشيئا و أراني مفعما بالأمل في أن يكون اجتماعنا هذا بداية لاستيعاب المكتسبات العلمية الحديثة و فهم دورها في التعمق في وعي البعد الإنساني و العلمي لتراثنا العربي الإسلامي. إن الموضوعات التي نريد أن نتحدث عنها في بحثنا هذا تتعلق بدراسة العلاقة التي توجد بين اللغة العربية و خصائصها التركيبية من ناحية، و شخصية الإنسان العربي من ناحية أخرى. و هذا يعني أنه علينا أن نقسم كلامنا إلى محورين أساسيين. يقوم المحور الأول على تحليل العلاقة بين اللغة و الذات البشرية و تأثير كل منهما في الآخر بشكل عام. في حين أن المحور الثاني يتعلق بتبيان ما للغة العربية من خصوصيات تعكس ذات المتكلمين بها و شخصيتهم.
أولا: في العلاقة بين اللغة و الفكر: يقول ميشال فوكو في كتابه "الكلمات الأشياء ": "كانت اللغة في شكلها البدائي و عندما وهبها الله نفسه للبشر كانت تشير إلى الأشياء إشارة مطلقة و أكيدة و شفافة، لأنها كانت على شاكلة هذه الأشياء". و يبدو أن هذه الشفافية التي يتكلم عليها فوكو في العلاقة بين الشيء و إسمه إنما فقدت عندما أنزل الله جام غضبه على أهل بابل و شتتهم فرقا وشيعا. إن إدراك العالم الخارجي أو بمعنى أوسع إن رؤيتنا الداخلية لكل ما هو موجود تختلف و لا شك عن رؤية الكائنات الحية الأخرى لواقعها ولكل ما هو موجود حولها. ذلك أن عالمنا ليس كتلة من الأشياء التي نتعامل معها تعامل كلب "باثلوث"، مع طعامه أو مع الجرس الذي يرن حين إطعامه. فالعالم الذي يدركه الإنسان هو واقع يخضع لترتيب و تصنيف معينين و هو بكلمة أخرى يرتبط بالنظام اللغوي ارتباطا تختلف درجاته باختلاف المستويات اللغوية و باختلاف اللغات. لقد تكلم العديد من علماء اللغة و علماء النفس و منذ مطلع هذا القرن على العلاقة الحميمة التي تربط المفاهيم و إدراك العلاقات بينها، و بين اللغة. هنا قد يعترض معترض على هذا الكلام بقوله: إن المفاهيم اللسانية الحديثة تناقض الارتباط الوثيق بين اللغة والفكر. و خاصة فيما يتعلق باعتباطية الرابط بين الدال أو المدلول. و للإجابة على هذا الاعتراض لا بد لنا من شرح هذا المفهوم. يقول مؤسس علم اللسانية، فرديناند دي سوسير إن "اللغة تتألف من نظام إشارات، تكون كل إشارة فيه كيانا نفسيا لا يوجد إلا في ذهن الإنسان. و العلاقة بين الإشارة و الشيء الذي تشير إليه إنما هي علاقة اعتباطية و كيفية بمعنى أنها اتفاق جماعي على ربط هذه الإشارة بذلك الشيء. من ناحية أخرى تحد الإشارة بكونها تتكون من اتحاد عنصرين لا فاصل بينهما، الدال و المدلول. فالدال هو الصورة الصوتية التي تنطبع مباشرة في ذهن السامع. و هو بعبارة أخرى الإدراك النفسي للكلمة الصوتية. أما المدلول فهو الفكرة التي تقترن بالدال. نأخذ مثالا عن ذلك الإثارة اللغوية (ثور): الدال هو الصورة الذهنية لسلسلة الأصوات المتتالية /ث/،/و/،/ر/. والمدلول هو التصور الذي ينطبع في الذهن فور التقاطه هذه السلسلة، و هو بالطبع هنا صورة الثور الذهنية". و الجدير بالذكر أن دي سوسور يؤكد على "كيفية" العلاقة التي تربط بين الدال و المدلول (L'arbitraire du signe) أي أن هذه العلاقة غير معللة. فلا يوجد في أي من عناصر الدال ( ث- و- ر) مثلا ما يدل بشكل طبيعي و منطقي عل المدلول "ثور" (كأن تكون الثاء دليل آكل الأعشاب و الواو دليل الحيوان و الراء دليل الذنب أو الاجترار، أو القرنين، الخ..) الحقيقة أن هذه النظرية اللسانية لا تدحض نظرية تأثير اللغة بالتراكيب الفكرية بل على العكس من ذلك تكرس تأثير اللغة في تطور الفكر التجريدي عند الإنسان و في الفصل بين مسميات الأشياء و الأشياء المادية بحد ذاتها. و هي بعبارة أخرى تؤكد على أهمية اللغة و عملها في توسيع أفق الفكر البشري و الإشارات على حسن تنظيمه. يقول أميل بانفينبست: لولا معونة الإشارات اللغوية لكنا عاجزين عن أن نميز بين فكرة و أخرى بشكل واضح. إن علماء اللغة الذين أتوا بعد دي سوسير و بانفينيست تحدثوا عن كيفية و اعتباطية العلاقة بين وجهي الإشارة اللغوية. و رغم أنهم تعارضوا فيما بينهم حول تفسير مفهوم الإعتباطية (بين الإشارة و الشيء هي أم بين الدال و المدلول) فإنهم اتفقوا جميعا على أمية النظام اللغوي في تطوير الفكر البشري و التواصل الاجتماعي. إذ إنهم يفسرون نظرية دي سوسير بقولهم: "إن الإشارات اللغوية تشرف عل تقسيم المفاهيم الذهنية لمدى أفراد المجتمع الواحد. و هذا يدل على ما للغة من دور في تنظيم تصورنا الذهني للعالم الخارجي. يقول جان- بول- برونكارت: "إن الاعتباطية التي يتكلم عليها دي سوسور تستند بشكل أساسي إلى التقسيم الذي تدخل به الإشارات في تنظيم انطباعات الإنسان الذهنية. و هكذا نستطيع التأكيد مع علم اللسانية أن اللغة نظام اجتماعي يتلقاه الفرد الواحد بشكل شبه سلبي بحيث يدرك العالم الخارجي من خلال تقسيمات و تنظيمات تتعلق بشكل أو بآخر بفئات هذا النتاج النحوية و الدلالية. و هذا ما أدى في الواقع إلى ولادة علوم تتخذ من اللسانية منهج لدراسة أمور نفسية و اجتماعية جماعية. فاللغة مثلا تعد منطلقا أساسيا في دراسة تراكيب الحياة الاجتماعية (كما عند سابير الذي أحدث ثورة لسانية و بيستولوجية على سواء) كما تعد نموذجا يحتذى في تحليل العلاقات العائلية و الاجتماعية (كما عند كلود ليفى متراوس).
نستطيع الآن أن نحدد أمرين أساسيين: 1- اللغة تعمل على تحديد شخصية الفرد لكونها نظاما يضطر المرء على التعامل به مع ذويه. 2- اللغة ترتبط بجسد المتكلم و انخراطه الذاتي في المجتمع إن الطفل عندما يقتدي بالآخرين يقيم علاقة مقارنة بين سلوكه الشخصي و سلوك الآخرين. و لا بد من التنويه أن السلوك الشخصي هو تحولات تتأتى من مواقف شخصية يكتسبها الطفل أو يقوم بها خلال سنين حياته و ذلك من خلال ما يطلب منه من أعمال و انطلاقا في العائلة و في المجتمع. و لابد هنا من التأكيد على أن شخصية المرء تأخذ أبعادها الأساسية في مرحلة الطفولة. و السلوك الشخصي يتخذ وجهين أساسيين: 1- نشاط يتمثل به المرء ما يختص بموقف معين، و هو نشاط يبني فكرة حاضرة، بمعنى أنها فكرة قابلة لأن تحدد و أن تمدد في الزمن و أن يعاد النظر فيها. و هذا يعني أن هذا النشاط يلتصق بواقع الشيء أو الأشياء التي يتم التعامل في معها اللحظة الحاضرة. 2- نشاط يضاف إلى النشاط الأول و يكون في أساسه. و هو يقوم على بناء علاقة نظامية تهدف إلى تحديد ما يلائم و ما لا يلائم من العناصر المكونة لرؤية الواقع و ذلك من الوجهة المنطقية أو من الوجهة السببية. مما لا ريب فيه أن هذين الوجهين للسلوك الشخصي يرتبطان بالنشاط الاجتماعي الذي يحدد المرء من خلاله علاقاته بالآخرين و أنماط تواصله العاطفي و الانفعالي و الكلامي. و نستطيع بذلك أن نميز بين ظاهرتين لشخصية الفرد مختلفتين و متكاملتين في الوقت ذاته: سلوك آني يخضع لقوانين نظام اجتماعي تختص به شخصية الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، و هذه الشخصية تظهر ليس فقط من خلال السلوك الفردي، بل و على الأخص من خلال عمليات التواصل اللغوية و غير اللغوية التي يضع فيها كل فرد من الجماعة قوانين النظام العام على المحك و يراجع القيم التي تقوم عليها هذه الشخصية، و لا يمكن لشخصية الفرد أن تنمو و تتكامل إلا في حال كانت شخصية الجماعة متكاملة و موضوعية. و لما كان تواصل الفرد مع غيره من أفراد الجماعة، و بالتالي بناء شخصية و التعبير عنها، يتمان عبر اللغة أساسا، فإننا نستطيع أن نقول إن اللغة تقوم في بناء الشخصية بوظائف عديدة تؤدي فيها علاقات الدالات بالمدلولات دورا أساسيا. وهذا السياق اللغوي يدخل و لا بد في إطار سياق أكبر يضم أنماط المواقف الثقافية التي تعتمد بدورها على اللغة إن للتعبير عن مضامينها أو للاتصال بالأنماط الثقافية الأخرى. و لا ننسى هنا أن نذكر أن مفهوم الثقافة عندنا يشمل كامل السلوك الاجتماعي فنيا كان أم ثقافيا أم نفسيا. و إذا عدنا إلى ما يقوله علماء النفس حول تطور شخصية الطفل لرأينا أن هذا الأخير ينظم عالمه الثقافي المحيط به- المادي على الأخص- من خلال التسميات التي يطلقها على ما تقع عليه عيناه و على ما يدركه. فهو يميز بين الواقع و الممكن من خلال تمييزه بين جمل الإثبات و جمل النفي. كما أنه يثبت شخصيته في الزمن الحاضر من خلال استعماله لتراكيب فعلية ماضية أو مستقبلية ، و ما إلى هنالك . ويمكننا أخيرا أن نحدد عمل اللغة في تكوين إدراك العالم و تطوره عند الطفل في ثلاث نقاط. 1- إن تمثل الواقع عند الطفل يكون في بادئ الأمر إدراكا لا واعيا لأمور تتعلق بعلاقته مع/ثم يتم إدراك هذه الأشياء إدراكا واعيا عن طريق عمليات التواصل مع المقربين إليه، و ذلك عندما يطلقون على واقع الطفل أسماء يتعلمها و ينتبه من خلال الإشارات اللغوية التي تدل عليها إلى صحة ما يقوم به أو عدم صحته. و هكذا يقوم هؤلاء المقربون إلى الطفل بإعادة بناء الواقع الذي يدركه من خلال بناء آخر أقل تعقيدا أو لنقل أشد تنظيما و هو البناء اللغوي. ذلك أن وعي الطفل للعالم يتم من خلال حواراته مع من يحيط به من البالغين. 2- إن استعمال اللغة شرط ضروري في هذه الحوارات. و قد أثبتت التجارب أن تفاعل الطفل مع الأشياء التي تحيط به يختلف إذا كان هذا الطفل يعرف هذه الأشياء حق معرفتها. و يقول علماء النفس بعد تجارب عديدة قاموا بها: إن ذكاء الطفل المتعلق بمعالجته للأدوات و تعلمه استعمالها ينمو بطريقة تختلف عن المعتاد إذا كانت هذه المعالجة و هذا التعلم مصحوبين بإشارات كلامية. كذلك، و من ناحية أخرى، نعلم جميعا أن وعي الذات لا يتم بشكل صحيح إلا من خلال اللغة التي يتمثلها في نمط الذكريات و الأحلام. 3- إن كل رؤية للواقع و تمثل لموجوداته يتضمن نوعا من المقارنة و لو كانت هذه المقارنة ضمنية. فتمثل الحاضر يتم بالرجوع إلى غائب. و قد أثبتت التجارب أن الطفل لا يستطيع أن يقوم بهذه المقارنة بين شيء حاضر و آخر غائب إلا من خلال علاقة ثنائية يتعلمها و يحفظها عن طريق اللغة. و بشكل عام نستطيع القول أن الطفل يجد في اللغة الوسيلة التي تسمح له بالمزج بين ما يدركه و ما يعيشه و أن يقيم نظاما متكاملا يحيط بتجربة المدرك و تجربة المعاش. فاللغة بذلك تعطيه الوسيلة التي يستطيع بها أن يخرج من دائرة الأشياء و ماديتها إلى دائرة السيطرة عليها بالكلام الذي يصفها به. بقي في هذا الجزء الأول من بحثنا أن نتكلم على التأثر المتبادل بين الجسد و اللغة. و سنركز كلامنا هنا على عضوين رئيسين لا يستقيم الكلام بدونهما و هما الفم و الأذن. إذا كان الفم العضو الأساس و الوحيد الذي يخرج منه أول تعبير عن الحياة، و هو الصراخ، فإن استواء الكلام يعد دليلا واضحا على وصول الطفل إلى كمال تطوره النفسي. و الفم يكون بذلك أول مصدر يخرج منه التعبير عن الوجود، ليس بالصراخ فحسب بل كذلك باللذة التي تكلم عنها علماء النفس و التي وصفوا بها مرحلة أساسية من مراحل تطور الطفل. و نستطيع بذلك أن نقول أن عملية التكلم تعد نوعا ما اكتشافا جسديا و صوتيا للعالم كله. يقول العالم "غوري ": "إن إخراج الأصوات أو الثغثغة ليست استنماء بدائيا فيما فحسب بل هي استكشاف ابتهالي للعالم و للجسد بواسطة الكلمات و الأصوات. و إذا كان الفم يبين مدى ارتباط اللغة بالتجربة الجسدية فإن ذلك لا يعنى البتة أن أعضاء الجسد كلها تعمل في التطور الجسدي و اللغوي على المستوى ذاته. فبالإضافة إلى الفم تأتي هناك أعضاء تقوم بالدور الرئيس أو لنقل على الأقل بدور لا غنى عنه. فالأذن لا تقل أهمية عن الفم. لقد وضع الفرد توماتيس كتابا بعنوان الأذن و اللغة، يتكلم فيه على دور هذا العضو الرئيس في حياة الإنسان الجسدية و النفسية و الاجتماعية. فهي الآلة التي بها يتلقف الإنسان الكلام و التي بواسطتها "يستيقظ على وجود ذاته"، كذلك فإن التشريح و دراسة تطور الجنين في رحم أمه يدلان على أن الفم (عضو الكلام) و الجزء الخارجي من الأذن (عضو تلقي الكلام) يكونان مجموعة واحدة قبل وصول الجنين إلى مرحلة متأخرة من نموه. و هذا يدل عل أن استعمال الحنجرة في الكلام يكون مشروطا باستماع الأذن له. كما يدل على أن معرفتنا للعالم – و هي معرفة صوتية قبل كل شيء- تتم من خلال تعرفنا "عضويا" على صوتنا بواسطة الأذن. و قد قام "توماتيس" بقياس مراقبة الأذن لإنتاج الكلام، و ذلك بسلسلة من التجارب الفريدة. فقد جاء في إحدى تجاربه بمغن شهير قام بأداء إحدى أغنياته مئات المرات. ثم طلب منه أن يغني هذه الأغنية و في أذنيه سماعتان يصله من خلالهما صوته هو عن طريق مجسم يتحكم "توماتيس" به. و لعدة مرات، تدخل الباحث في نوعية الصوت الذي يدخل إلى أذني المغني. فأوصل إليه صوته عبر إحدى الأذنين، ثم عبر الأخرى، فلاحظ وجود ما سماه ب "الأذن الموجهة". فعندما كان صوت المغني يصل (عبر المجسم و السماعتين) إلى أذنيه الإثنتين أو إلى أذنه اليمنى، كان صوته يخرج طبيعيا تقريبا، و كأن لا وجود للآلة بين الصوت و الأذن. و لكن عندما أسمعه صوته بأذنه اليسرى و منع تماما دخوله إلى الأذن اليمنى، فقد المغني براعته المعهودة في الأداء "و أصبح صوته ثقيلا و خشنا و باهتا، و فقد من انضباطه، وتباطأ إيقاعه ". و يبدو أن هذه "الجنبية"، في استعمال الأذن (و غيرها من الأعضاء) ظاهرة تعد من أهم ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات. فبدونها لا يتمكن المرء من اكتساب اللغة أو استعمالها. و قد أثبتت التجارب العديدة في هذا المجال أن عدم وجود هذه الظاهرة الجسدية البحتة عند الأطفال تكون دائما مصحوبة بعدم المقدرة على اكتساب اللغة. كذلك فإن الأطفال الصم- البكم لا يملكون جميعهم الجنبية و يعملون (و يسمعون) بيمناهم كما يسراهم دون أي تفضيل لجنب عل جنب. و قد قام "توماتيس" بتجارب على أطفال مصابين بالتأتأة، و التأخر في الكلام و التعبير الكتابي، و القصور العقلي. فربى فيهم استعمال إحدى الأذنين و تفضيلها على الأخرى. فلاحظ تقدما سريعا في تلقنهم اللغة و الحركة و التعبير بالجسد. لذلك يقول "توماتيس": "إن التربية باللغة تؤدي إلى تطور الحركات البراكسية (العملانية)، و في الوقت ذاته إلى تكوين الجنبية المعرفية". و نجد شاهدا آخر على أهمية الجنبية في استعمال الأذن عند "ديديه أنزيو" الذي يقول: إن المرء يتعرف بشكل جيد على اللحن إذا قدم إلى أذنه اليسرى و وصل بالتالي مباشرة إلى نصف دماغه الأيمن، و على الخطاب إذا قدم إلى أذنه اليمنى و صب مباشرة في نصف دماغه الأيسر، الذي يتولى تفسيره... ذلك أن النصف الأيسر من الدماغ يكون- على ما يبدو- مركز تعلم الأنظمة، و هذا التعلم يؤدي دائما إلى الحلول محل العمل الفطري. و الشاهد على ذلك أن حديث العهد بالموسيقى يتعرف على فكرة موسيقية أو إيقاع موسيقي بالتقاطهما التقاطا إجماليا ساذجا عن طريق أذنه اليسرى, في حين أن المتمرس بالموسيقى الذي اعتاد تحليل الجملة الموسيقية إلى نوتات متتالية، فإنه يتمتع بأذن يمنى أفضل". و هكذا فإن هذا العضو الصغير من الجسد يعمل ضمن آلة كبرى هي الإنسان. و هو بعمله هذا يشمل الذاتي و اللغوي و الجسدي. و نستطيع بذلك أن نحد اللغة- كما يقول "توماتيس"- بكونها "تواصلا مع الآخر بواسطة الذات "، و لكن كذلك بواسطة الجسد. فعندما أتكلم، أو أبث المرسلة اللغوية، أكون أنا أول من اطلع على مضمونها بواسطة أذني، بل باستخدامي جسدي كله "لأنه بجسدنا يبدأ عالمنا، و هو الذي علينا بادئ الأمر أن نطمئنه و أن نقنعه بصحة خطابنا (مرسلتنا). و جسدنا يستجيب لهذه اللعبة، لأن الكلمة تلعب به، و كأنه آلة تردد الصوت بائتلافات لا حصر لها و بتنوع لا نهاية له".
ثانيا: اللغة العربية و ما تنم عليه من شخصية متكلميها: إذا كانت اللغة- عامة- ترتبط كما رأينا بالوعي البشري و جسد الإنسان و سلوكه فهل باستطاعتنا أن نستكشف معالم الذات الجماعية عند أمة ما من خلال ملاحظة اللغة الخاصة التي تتكلمها، و أعني بذلك اللغة العربية؟ لا بد هنا من الرجوع إلى التمييز بين الكلام و اللسان. فالكلام آني و فردي و هو يرتبط باللحظة الحاضرة و بالمكان الحاضر و بالفرد الذي ينطق به. و لكنه في الوقت ذاته تحقيق لنظام أساسي يقبع وراءه و لا يدرك إلا من خلاله و هذا النظام هو اللسان (و نستعمل في هذا البحث كلمتي اللسان و اللغة دون اعتماد التمييز بينهما كما عند اللسانيين. و إذا كان الكلام فرديا و ذاتيا فإن اللسان جماعي لا يرتبط بزمان أو مكان محددين و لا بكائن فرد أو مؤسسة شخصية. إنما هو نتاج اجتماعي تملكه الأمة التي تتداوله و يستوعبه كل فرد منها دون وعي منه و انطلاقا من ملكة جبل عليها. و إذا عدنا إلى التحليل النفسي لوجدنا أنه يعتمد على مضامين الكلام الفردي في دالاته و مدلولاته ليتوصل إلى تحديد الأبعاد النفسية و الحواجز الذاتية التي تكمن في شخصية صاحب الكلام. و يتم ذلك على الأخص بمقارنة هذا الكلام الفردي بنماذج عامة من الإنتاجات الفردية السوية. و هكذا إذا تابعنا المنطق ذاته لرأينا أننا نستطيع أن نقوم بعملية التحليل ذاتها على مستوى اللغة فنكتشف بذلك و من خلال تحليل لسان أمة ما شخصيتها الكامنة. و لكن ذلك يتم بمقارنة هذا اللسان و خصوصياته بألسنة أخرى. و هكذا نستطيع القول أن تحليل اللغة العربية و مقارنتها مع لغات أخرى كالأوروبية مثلا يسمحان لنا بسبر جوانب عديدة من الذات العربية. و لننظر بادئ الأمر إلى موقف الإنسان العربي حيال لغته في إطار التواصل اللغوي بالمقارنة مع موقف الإنسان الأوروبي في الإطار ذاته. و لا بد لنا في هذا الإطار من الرجوع إلى عالم سبق أن أشرنا إلى بعض أفكاره و هو ميشال فوكو و على الأخص في كتابه "الكلمات و الأشياء" الذي لا يزال ضروريا في كل بحث لغوي و ايبستيمولوجي رغم كونه قديما نسبيا (صدر سنة 1966). الحقيقة أن ميشال فوكو أحدث انقلاب في موضوع الكلام و الفلسفة. فهو منذ أول عهده بالبحث و الدراسة تناول مواضيع لم تكن الفلسفة التقليدية معتادة عليه. ففي سنة 1954 نشر كتاب "المرض العقلي و علم النفس" ، و في سنة 1961 نشر كتاب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" ، ثم في سنة 1966 نشر "الكلمات و الأشياء" كما ذكرنا. و تبع هذه الكتب مؤلفات أخرى حول اللذة و الذات و المعرفة. و الجدير بالذكر هنا أن هذا المفكر عندما كان في أوج مجده الفلسفي كان يبحث في دراسة موضوع الخلل العقلي، و هو موضوع يناقض تماما ما عهدته الفلسفة منذ تاريخها الأول، ألا و هو موضوع الحكمة. و لكن ميشال فوكو لم يدرس الجنون لذاته بل أراد أن يصل من خلال هذا الموضوع إلى المؤسسة الجزائية التي كانت تحاول التصدي لهذا الخلل. أضف إلى ذلك أن الهدف الأسمى كان عنده تحديد نوع من "أركيولوجيا المعرفة". و ما يهمنا من فلسفة فوكو هو نظريته في تاريخ التفكير اللغوي في الغرب مما يسمح لنا بمقارنة هذا التفكير بموقف العرب من النظام اللغوي. فهو يعتقد أن العلاقة بين الإنسان و الواقع تمر دائما بالوسيط اللغوي و على الأخص بالخطاب الذي هو كلام (بالمقارنة مع اللسان كما أسلفنا). و قد كانت مسألة العلاقة بين الكلمات و الأشياء بالنسبة إليه في أساس تعريفه لتطور التراكيب المعرفية عند الغربيين. و نلخص بسرعة ما قاله فوكر حول هذه المسألة. فهو يرسم تاريخ التفكير اللغوي و موقف الإنسان الغربي من المعرفة اللغوية في مراحل عدها محطات أساسية، و نوجزها كما يلي: - في عصر النهضة كان هناك نوع من التشابك و الدمج بين الكلمة و الشيء. و كان الإنسان الغرب يعطي الأفضلية للكتابة. و في العصر الكلاسيكي بدأت الكلمة تنفصل شيئا فشيئا انفصالا جذريا عن الشيء. و في منعطف القرن التاسع عشر تكرست اللغة كموضوع دراسة و بحث منفصل عن غيره من مواضيع الأبحاث و بات يعد كلغة- شيء. ففي حين أن المعرفة اللغوية أو معرفة العالم من خلال اللغات كانت تكون جزءا لا يتجزأ من المعرفة الأنطولوجية للعالم في عصر النهضة، شهدت اللغة في العصر الكلاسيكي بدايات خجولة لتنظيم محتمل لما تمثله اللغة من أشياء و أفكار. أما في القرن التاسع عشر، فإن اللغة كما يقول فوكو "انغلقت على نفسها و اكتسبت كثافة خاصة بها و باتت تحمل تاريخا و قوانين و موضوعية لا تخص شيئا سواها". و هكذا نجد أن تاريخ الحضارة الغربية يحدد موقفا خاصا للإنسان الغربي من لغته. فما هو موقف الإنسان العربي من لغته و بالتالي من ذاته و من الأشياء التي تحيط به؟ إن علاقة الإنسان العربي بلغته و العالم الذي يتعامل معه تختلف عن علاقة الإنسان الغربي بلغته و العالم الذي يتعامل معه. فالإنسان العربي يعيش لغته في ذاته و لا يعطي اللغة قيمة الشيء الذي ينسلخ عنه و يوجد في خارجه. فهو عندما يتكلم يمتلك اللغة بالمعنى الجذري لكلمة الامتلاك أي أن ذاته و اللغة يصبحان كيانا واحدا لا ثنائية في تركيبه. و نسوق مثالا على هذه المقدرة التجريدية المنسلخة عن المادة و المستوعبة لكل ما هو روحاني هذه الحادثة التي يقصها فتح الله صايغ في مذكراته و هي تتناول رواية سرقة حصان كان يملكه بدوي يعيش في الصحراء. تروي الحادثة أن بدويا كان ينام في خيمته وسط أترابه و حصانه الأصيل العزيز على نفسه مربوط إلى وتد من أوتاد خيمته. فجاء سارق و فك عقال الحيوان و هم بأخذ الحصان. و لما لم يكن هذا السارق لصا عديم الأخلاق و الشرف أيقظ البدوي قبل فراره و قال له: "ها أنا آخذ مطيتك و لن تستطيع البتة أن تقول أنني لم أحذرك". جن جنون البدوي فقد كان لشدة تعلقه بحصانه يرفض بيعه مهما بلغ ثمنه و كان يعتبره امتداد لجسده و الوجه الآخر لذاته. فما كان منه إلا أن أيقظ أصحابه و صرخ فيهم أن الحصان قد سرق و أنه لا بد من القبض على الجاني. و تذكر الرواية هنا أن الأعرابي الحق الذي اعتاد على مخاطر الحياة البدوية يروض حصانه على إشارة خفية لا يعرفها غيره و يستعملها فقط في حالات الضرورة القصوى. و هي إشارة يستجيب لها الجواد بأن يبذل أقصى ما يمكن له من قوة و عزم في تجاوز من يسابقه و الابتعاد عنه. هنا تضيف الرواية أن البدوي استطاع مع أصحابه اللحاق بالسارق و الاقتراب من محاصرته. و لكن و في هذه اللحظة بالذات صرخ البدوي بالسارق: "خل لجامه و عض على أذنه اليمنى" . فما كان من السارق إلا أن فعل ما قاله البدوي فضرب الحصان حوافره في الأرض و انطلق كالسهم المارق بعيدا عن متناول المطاردين. توقف هؤلاء و صرخوا في البدوي و قد أنهكهم التعب: "و لكن لماذا فعلتها يا صاح؟ لماذا بحت له بسر حصانك؟". فما كان من البدوي إلا أن أجابهم بهدوء: "فعلتها من أجله.. من أجل حصاني الذي كان على وشك أن يخسر سباقه. إني أفضل أن أفقد حصاني على أن أفقد شرف حصاني". إن ما يهمنا من هذه الرواية هو دلالتها على شخصية الإنسان العربي. فهو يتعلق بالقيم الإنسانية المجردة و لا يرتبط بالمادة مهما بلغت محبته لها و نسوق هنا تعليق اثنين من كبار الأدباء الفرنسيين على هذه الحادثة و هما جان غروجان و لوكليزيو في حديث نشر في مجلة "لونوفال أو بسرفاتور" فهما يقولان: هل يوجد أجمل من هذه الرواية؟ إنها تشهد شعريا و بدائيا في الوقت ذاته على حضارة يكون فيها التعلق بالقيم و الفضائل أقوى بكثير من التعلق بمتاع الدنيا. و مما لا شك فيه أن ما يجري على الأحصنة يجري كذلك على الناس. إننا نحن الأوروبيين "شيئيون" ، بمعنى أننا نتعلق بالأشياء. و لكن هناك في الصحراء الإنسان هو أساس الحياة، إنه القيمة الوحيدة. مما لا شك فيه أن هذه الظاهرة في النفس العربية تنطبق على المواقف من اللغة له. فالإنسان العربي لا يجد في اللغة مادة تنسلخ عن ذاته يدرسها و يشرحها و كأنها جسم مستقل عن جسمه و نفسه، بل إنه يعيش اللغة و يتمثلها في ذاته عندما يبادر في الكلام. و لا يتسع المجال هنا لدراسة كل ظواهر الاختلاف بين تراكيب اللغة العربية من جهة و علاقتها بجسد الإنسان العربي و نفسه و بين ما يقابلها في اللغات و أنماط السلوك الأوروبية. ونكتفي بذكر النقاط الأساسية التي تكون محور البحث في هذا المجال: 1- الآلة المصوتة في اللغة العربية تختلف في مواضع النطق و في طرق استعمالها اختلافا جذريا عما نعرفه في اللغات الأوروبية. ففي حين تستعمل هذه الأخيرة الجانب العلوي فقط من الآلة المصوتة تستعمل الصوامت العربية مواضع نطق تتوزع توزعا متوازنا في سلسلة الأعضاء النطقية، من الشفتين حتى المزمار مرورا بالنخاريب و الحنك الصلب و الحنك اللين و اللهاة و الحلق. و هذا الاختلاف ينعكس و لا شك على جسد الإنسان العربي و على تعامله البدني مع اللغة. 2- الفوارق كثيرة بين اللغة العربية و بين سائر اللغات الأخرى في توزيع الأصوات اللغوية بين الصوامت و الصوائت، بل إن هذا التوزيع بالذات يختلف اختلافا جذريا بين اللغات الأوروبية و اللغة العربية. ففي حين أن الصوائت في اللغات الأوروبية تدون في الكتابة و تعد أصواتا قائمة بذاتها، نجدها في اللغة العربية ضعيفة ("هي أحرف العلة")، و حركات لا تدون في الكتابة و إنما يخلقها المتكلم في قراءته و يعيش "حركاتها" في ذاته. 3- أضف إلى ذلك أن اللغة العربية تقوم على جذر ثلاثي أساسي يجد لدى التكلم حياة له و تشعبا، و ذلك في الاشتقاقات و الأوزان التركيبية. و هذا يجعل من المتكلم العربي أداة حياة بل و إحياء للجذر الأساسي. 4- و لا بد هنا من التكلم عن مقارنة فعل "الكون" Verbe être , to be في اللغتين الفرنسية و الإنكليزية و ما يمكن أن يقابله في اللغة العربية. و قد قام الباحث التونسي منصف شيللي بدراسة هذه المقارنة فوجد أنه إذا كانت اللغة تساعد بشكل عام وعي الإنسان على التجرد من العالم المحسوس الذي يحيط به فإن ظهور ألفاظ مثل فعل "الكون" الذي لا يوجد في اللغة العربية جعل الإنسان الغربي يلتفت إلى العالم المحيط به لا كعنصر ينتمي هو إلى مجموع عناصره بل بالأحرى كعنصر مسيطر ينتمي العالم ذاته إلى دائرته الفردية. و لا يسعنا في نهاية هذا الحديث إلا أن نذكر بشكل عام النتائج التي توصل إليها منصف شيللي في دراسته للكلام العربي. فهو يقارن اللغة العربية باللغات الأوروبية (و خاصة الفرنسية) في محاولة منه للوصول إلى شخصية الإنسان العربي و وعيه لذاته و لمحيطه و مجتمعه. و قد استطاع أن يتوصل إلى حقيقة هامة و هي أن من يتكلم العربية عربي في كينونته، و من يتكلم الفرنسية فرنسي في كينونته. و لا شك في أن الأول يختلف عن الآخر في وعيه و تفكيره و حياته من المنظار النفسي و الاجتماعي و الأخلاقي. ذلك أن الإنسان الغربي يعرض أمامه الإشارة اللغوية و يقدمها، إذا صح التعبير، إلى وعيه في حركة متعالية، في حين أن الإنسان العربي يعيش لغته في ذاته و يقدم نفسه هو إلى اللغة فتشكل وفقا لتشكل اللفظة العربية تاريخيا و تزامنيا.
|
|||
سعيا وراء
ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين
بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات
الموقــع : الإصــدار
الإنجليــزي – الإصــدار الفرنســي |
|||
|
|||
Document Code VP.0031 |
ترميز المستند VP.0031 |
||
Copyright ©2003 WebPsySoft ArabCompany,
www.arabpsynet.com (All Rights Reserved) |